ترسيم الحدود في لبنان وسوريا- السيادة، الثروات والتحديات الإقليمية

المؤلف: عبدالرحمن الطريري09.28.2025
ترسيم الحدود في لبنان وسوريا- السيادة، الثروات والتحديات الإقليمية

تُعتبر عملية ترسيم الحدود بين الدول ذا أهمية قصوى؛ فهي تحفظ سيادة الأوطان وتصون حقوق المواطنين، وتزداد هذه الأهمية تعقيدًا عندما يتعلق الأمر بوجود ثروات طبيعية، وهو ما ينطبق عمليًا على منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة بعد الاكتشافات النفطية التي حدثت في عام 2010. ومع البحث الأوروبي الحثيث عن مصادر بديلة للغاز الروسي، ازدادت المطامع الغربية تحديدًا منذ عام 2022.

يتألف حوض شرق المتوسط الشاسع من ثلاث مناطق رئيسية، وذلك وفقًا لما جاء في كتاب "جيوبوليتيك البحر المتوسط" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية. هذه المناطق هي: حوض بحر إيجه الممتد قبالة السواحل التركية واليونانية والقبرصية، وحوض دلتا النيل الواقع قبالة السواحل المصرية، والذي يمتد شمالًا حتى السواحل القبرصية، وأخيرًا حوض المشرق الممتد قبالة السواحل السورية واللبنانية و«الإسرائيلية»، وهو محور اهتمامنا في هذا المقال.

على الصعيد اللبناني، تأخرت البلاد كثيرًا في ترسيم حدودها مع كل من إسرائيل وقبرص، وذلك بسبب صعوبة ترويج هذا الأمر للرأي العام، خاصةً مع وجود تيارات سياسية معارضة. وقد استمرت جولات المفاوضات لسنوات عديدة، حتى عاد المبعوث الأمريكي أموس هوكشتاين، الذي كان قد مثّل الجانب الأمريكي في المفاوضات خلال عام 2013 دون تحقيق أي تقدم ملموس.

لكن في 27 أكتوبر 2022، نجح هوكشتاين في إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان. وقد جاء هذا الحل في وقت كانت فيه لبنان تعاني من أزمة اقتصادية خانقة تفاقمت بعد ثورة 2019، وتبخرت خلالها أرصدة المودعين في البنوك، بالإضافة إلى كارثة انفجار مرفأ بيروت المدمر.

تم التوصل إلى هذا الاتفاق بعد موافقة لبنان على الخط 23 بدلًا من الخط 29 خلال المفاوضات. والجدير بالذكر أن اعتماد الخط 29 كان سيسمح للبنان بالحصول على جزء من حقل كاريش، الذي تسعى إسرائيل لاستخراج المواد الهيدروكربونية منه. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن شركة "توتال" الفرنسية هي التي ستتولى عمليات التنقيب واستخراج الغاز في حقل قانا، وهو ما يفسر التحركات الدبلوماسية الفرنسية قبل الحرب الأخيرة ومحاولات كسب ود حزب الله.

خلافًا للتوقعات، كان ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية أكثر صعوبة من ترسيم الحدود اللبنانية السورية، وذلك لسبب جوهري، وهو أن نظام حافظ الأسد كان يعتبر لبنان بمثابة حديقته الخلفية، وليست دولة ذات سيادة، خاصةً بعد سيطرة إسرائيل على هضبة الجولان والاتفاق معها في عام 1974، ثم الدخول في خضم الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975.

وكمثال على ذلك، يمكننا أن نتذكر أن لبنان الكبير، الذي تشكل بعد الانتداب الفرنسي في العام 1920، لم يشهد اتفاقًا على وجود سفارة سورية في بيروت إلا في 13 أغسطس 2008، وذلك بعد قمة جمعت الرئيسين بشار الأسد وميشال سليمان. وكان شعار الأسد الأب الدائم لابتلاع لبنان هو "تلازم المسار".

اليوم، يواجه كل من لبنان وسوريا تحديات جسيمة على مستوى تجاوز الماضي، كما يواجهان تحديات من أصحاب المصالح الذين يستفيدون من التهريب وتجارة الكبتاجون، والذين يعتبرون المعابر غير الشرعية بمثابة شريان الحياة بالنسبة لهم. بالإضافة إلى ذلك، هناك أطراف إقليمية تستاء من فكرة تحول الدولتين إلى دولتين وطنيتين قائمتين على المواطنة لا على أسس عرقية أو طائفية.

يقول المنظر الأمريكي نيكولاس سبيكمان: "الجغرافيا لا تجادل، فهي ما هي عليه. إنها العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للدول، لأنها الأكثر ديمومة. حتى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تبقى".

ومن هذا المنطلق، تتجلى أهمية مبادرة المملكة العربية السعودية كصانعة للاستقرار في المنطقة، من خلال جمع وزيري دفاع البلدين في جدة، بحضور وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان. وقد قام وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ونظيره السوري مرهف أبو قصرة بتوقيع اتفاق أكدا فيه على الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية متخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية، خاصة فيما يتعلق بما قد يطرأ على الحدود بينهما.

لا شك أن دبلوماسية الرياض الذكية والبعيدة عن الصخب تذكر اللبنانيين باتفاق الطائف، الذي أقر خصومه قبل مؤيديه بأنه الحصن الذي منع انزلاق لبنان إلى حرب أهلية، بالرغم من كل التهديدات التي واجهته في السنوات الماضية. ويأتي الإعلان عن الاتفاق على عقد اجتماع متابعة في السعودية في الفترة المقبلة ليؤكد إصرار الرياض على المضي قدمًا في هذا المسار حتى النهاية.

من السهل جدًا إطلاق شرارة نزاع على الحدود السورية اللبنانية، أو في السودان، ولكن المهارة الحقيقية تكمن في توقيع الاتفاقيات التي تحفظ مقدرات الحاضر والمستقبل للأجيال القادمة، وتقديم نموذج مختلف يطرح التنمية كخيار حداثي في المنطقة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة